فصل: تفسير الآية رقم (141):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (141):

{وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141)}
{وَلِيُمَحّصَ الله الذين ءامَنُواْ} أي ليطهرهم من الذنوب ويصفيهم من السيئات. وأصل التمحيص كما قال الخليل: تخليص الشيء من كل عيب يقال: محصت الذهب إذا أزلت خبثه. والجملة معطوفة على {يتخذ} [آل عمران: 140] وتكرير اللام للاعتناء بهذه العلة ولذلك أظهر الاسم الجليل في موضع الإضمار أو لتذكير التعليل لوقوع الفصل بينهما بالاعتراض. وهذه الأمور الثلاثة كما قال مولانا شيخ الإسلام علل للمداولة المعهودة باعتبار كونها على المؤمنين قدمت في الذكر لأنها المحتاجة إلى البيان. ولعل تأخير العلة الأخيرة عن الاعتراض لئلا يتوهم اندراج المذنبين في الظالمين أو لتقترن بقوله عز وجل: {وَيَمْحَقَ الكافرين} لما بينهما من المناسبة حيث إن في كل من التمحيص والمحق إزالة إلا أن في الأول: إزالة الآثار وإزاحة الأوضار. وفي الثاني: إزالة العين وإهلاك النفس، وأصل المحق تنقيص الشيء قليلًا قليلًا ومنه المحاق والمعنى ويهلك الكافرين، ولا يبقى منهم أحدًا ينفخ النار. وهذا علة للمداولة باعتبار كونها عليهم. والمراد منهم هنا طائفة مخصوصة وهم الذين حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأصروا على الكفر فإن الله تعالى محقهم جميعًا، وقيل: يجوز أن يكون هذا علة للمداولة باعتبار كونها على المؤمنين أيضًا فإن الكفار إذا غلبوا أحيانًا اغتروا وأوقعهم الشيطان في أوحال الأمل ووسوس لهم فبقوا مصرين على الكفر فأهلكهم الله تعالى بذنوبهم وخلدهم في النار.

.تفسير الآية رقم (142):

{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)}
{أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة} خطاب للمنهزمين يوم أحد وهو كلام مستأنف سيق لبيان ما هي الغاية القصوى من المداولة والنتيجة لما ذكر من العلل الثلاث الأول، و{أَمْ} منقطعة مقدرة ببل وهمزة الاستفهام الإنكاري، وكونها متصلة وعديلها مقدر تكلف، والإضراب عن التسلية ببيان العلل فيما لقوا من الشدة إلى تحقيق أنها من مبادئ الفوز بالمطلب الأسنى والمقام الأعلى، والمعنى بل لا ينبغي منكم أن تظنوا أنكم تدخلون الجنة وتفوزون بنعيمها وما أعد الله تعالى لعباده فيها.
{وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جاهدوا مِنكُمْ} حال من ضمير {تَدْخُلُواْ} مؤكدة للإنكار فإن رجاء الأجر من غير عمل ممن يعلم أنه منوط به مستبعد عن العقول، ولهذا قيل:
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها ** إن السفينة لا تجري على اليبس

وورد عن شهر بن حوشب طلب الجنة من غير عمل ذنب من الذنوب، وانتظار الشفاعة بلا سبب نوع من الغرور، وارتجاء الرحمة ممن لا يطاع حمق وجهالة، ونفي العلم باعتبار تعلقه التنجيزي كما مر في الإثبات على رأي. ويجوز أن يكون الكلام كناية عن نفي تحقق ذلك لأن نفي العلم من لوازم نفي التحقق إذ التحقق ملزوم علم الله تعالى، ونفي اللازم لازم نفي الملزوم وكثيرًا ما يقال: ما علم الله تعالى في فلان خيرًا ويراد ما فيه خير حتى يعلمه، وهل يجري ذلك في نفي علمنا أم لا؟ فيه تردد والذي قطع به صاحب الانتصاف الثاني، وإيثار الكناية على التصريح للمبالغة في تحقيق المعنى المراد وهو عدم تحقق الجهاد الذي هو سبب للفوز الأعظم منهم لما أن الكلام عليها كدعوى الشيء ببينة، وفي ذلك رمز أيضًا إلى ترك الرياء، وأن المقصود علم الله تعالى لا الناس، وإنما وجه النفي إلى الموصوفين مع أن المنفي هو الوصف الذي هو الجهاد للمبالغة في بيان انتقاء ذلك، وعدم تحققه أصلًا وكيف تحقق صفة بدون موصوف، وفي اختيار {لَّمًّا} على لم إشارة إلى أن الجهاد متوقع منهم فيما يستقبل بناءًا على ما يفهم من كلام سيبويه أن لما تدل على توقع الفعل المنفي بها، وقد ذكر الزجاج أنه إذا قيل: قد فعل فلان فجوابه لما يفعل، وإذا قيل: فعل؟ فجوابه لم يفعل، فإذا قيل: لقد فعل، فجوابه ما فعل كأنه قال: والله لقد فعل فقال المجيب: والله ما فعل، وإذا قيل: هو يفعل يريد ما يستقبل، فجوابه لا يفعل، وإذا قيل: سيفعل، فجوابه لن يفعل، فقول أبي حيان: «إن القول بأن لما تدل على توقع الفعل المنفي بها فيما يستقبل لا أعلم أحدًا من النحويين ذكره» غير متعدّ به، نعم هذا التوقع هنا غير معتبر في تأكيد الإنكار، وقرئ، {وَيَعْلَمَ} بفتح الميم على أن أصله يعلمن بنون خفيفة فحذفت في الدرج، وقد أجازوا حذفها إما بشرط ملاقاة ساكن بعدها أومطلقًا، ومن ذلك قوله:
إذا قلت قدني قال بالله حلفة ** لتغني عني ذا أنائك أجمعا

على رواية فتح اللام؛ وقيل: إن فتح الميم لاتباع اللام ليبقى تفخيم اسم الله عز اسمه، و{مّنكُمْ} حال من {الذين} ومن فيه للتبعيض، فيؤذن بأن الجهاد فرض كفاية.
{وَيَعْلَمَ الصابرين} نصب بإضمار أن، وقيل: بواو الصرف، والكلام على طرز لا تأكل السمك وتشرب اللبن أي أم حسبتم أن تدخلوا الجنة والحال أنه لم يتحقق منكم الجهاد والصبر أي الجمع بينهما، وإيثار الصابرين على الذين صبروا للإيذان بأن المعتبر هو الاستمرار على الصبر وللمحافظة على رؤوس الآي، وقيل: الفعل مجزوم بالعطف على المجزوم قبله وحرك لالتقاء الساكنين بالفتحة للخفة والاتباع، ويؤيد ذلك قراءة الحسن {وَيَعْلَمَ الصابرين} بكسر الميم، وقرئ {وَيَعْلَمَ} بالرفع على أن الواو للاستئناف أو للحال بتقدير وهو يعلم، وصاحب الحال الموصول كأنه قيل: ولما تجاهدوا وأنتم صابرون.

.تفسير الآية رقم (143):

{وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143)}
{وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الموت} خطاب لطائفة من المؤمنين لم يشهدوا غزوة بدر لعدم ظنهم الحرب حين خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها فلما وقع ما وقع ندموا فكانوا يقولون: ليتنا نقتل كما قتل أصحاب بدر ونستشهد كما استشهدوا فلما أشهدهم الله تعالى أحدًا لم يلبث إلا من شاء الله تعالى منهم. فالمراد بالموت هنا الموت في سبيل الله تعالى وهي الشهادة ولا بأس بتمنيها ولا يرد أن في تمني ذلك تمني غلبة الكفار لأن قصد المتمني الوصول إلى نيل كرامة الشهداء لا غير، ولا يذهب إلى ذلك وهمه كما أن من يشرب دواء النصراني مثلًا يقصد الشفاء لا نفعه ولا ترويج صناعته، وقد وقع هذا التمني من عبد الله بن رواحة من كبار الصحابة ولم ينكر عليه، ويجوز أن يراد بالموت الحرب فإنها من أسبابه، وبه يشعر كلام الربيع وقتادة فحينئذ المتمنى الحرب لا الموت.
{مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ} متعلق {بتمنون} مبين لسبب إقدامهم على التمني أي من قبل أن تشاهدوا وتعرفوا هوله، وقرئ بضم اللام على حذف المضاف إليه ونية معناه وأن تلقوه حينئذ بدل من الموت بدل اشتمال أي كنتم تمنون الموت أن تلقوه من قبل ذلك، وقرئ {تلاقوه} من المفاعلة التي تكون بين اثنين وما لقيك فقد لقيته، ويجوز أن يكون من باب سافرت والضمير عائد إلى {الموت}، وقيل: إلى العدو المفهوم من الكلام وليس بشيء.
{فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ} أي ما تمنيتموه من الموت شاهدة أسبابه أو أسبابه، والفاء فصيحة كأنه قيل: إن كنتم صادقين في تمنيكم ذلك فقد رأيتموه، وإيثار الرؤية على الملاقاة إما للإشارة إلى انهزامهم أو للمبالغة في مشاهدتهم له كتقييد ذلك بقوله سبحانه: {وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ} لأنه في موضع الحال من ضمير المخاطبين أي رأيتموه معاينين له، وهذا على حد قولك: رأيته وليس في عيني علة أي رأيته رؤية حقيقية لا خفاء فيها ولا شبهة، وقيل: تنظرون عنى تتأملون وتتفكرون أي وأنتم تتأملون الحال كيف هي، وقيل: معناه وأنتم تنظرون إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى كل حال فالمقصود من هذا الكلام عتاب المنهزمين على تمنيهم الشهادة وهم لم يثبتوا حتى يستشهدوا، أو على تمنيهم الحرب وتسببهم لها ثم جبنهم وانهزامهم لا على تمني الشهادة نفسها لأن ذلك مما لا عتاب عليه كما وهم.

.تفسير الآية رقم (144):

{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)}
{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل} روي أنه لما التقى الفئتان يوم أحد وحميت الحرب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يأخذ هذا السيف بحقه ويضرب به العدو حتى ينحني؟ فأخذه أبو دجانة سماك بن خرشة الأنصاري ثم تعمم بعمامة حمراء وجعل يتبختر ويقول:
أنا الذي عاهدني خليلي ** ونحن بالسفح لدى النحيل

أن لا أقوم الدهر في الكبول ** أضرب بسيف الله والرسول

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنها لمشية يبغضها الله تعالى ورسوله إلا في هذا الموضع فجعل لا يلقى أحدًا إلا قتله وقاتل علي كرم الله تعالى وجهه قتالًا شديدًا حتى التوى سيفه وأنزل الله تعالى النصر على المسلمين وأدبر المشركون فلما نظر الرماة إلى القوم قد انكشفوا والمسلمون ينتهبون الغنيمة خالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قليلًا منهم فانطلقوا إلى العسكر فلما رأى خالد بن الوليد قلة الرماة واشتغال الناس بالغنيمة ورأى ظهورهم خالية صاح في خيله من المشركين وحمل على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من خلفهم في مائتين وخمسين فارسًا ففرقوهم وقتلوا نحوًا من ثلاثين رجلًا ورمى عبد الله بن قميئة الحارثي رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجر فكسر رباعيته وشج وجهه الكريم وأقبل يريد قتله فذب عنه مصعب بن عمير صاحب الراية رضي الله تعالى عنه حتى قتله ابن قميئة.
وقيل: إن الرامي عتبة بن أبي وقاص فرجع وهو يرى أنه قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني قتلت محمدًا وصرخ صارخ لا يدري من هو حتى قيل: إنه إبليس ألا إن محمدًا قد قتل فانكفأ الناس وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو: إليّ عباد الله فاجتمع إليه ثلاثون رجلًا فحموه حتى كشفوا عنه المشركين ورمى سعد بن أبي وقاص حتى اندقت سية قوسه ونثل له رسول الله صلى الله عليه وسلم كنانته وكان يقول ارم فداك أبي وأمي وأصيبت يد طلحة بن عبيد الله فيبست وعين قتادة حتى وقعت على وجنته فأعادها رسول الله صلى الله عليه وسلم فعادت كأحسن ما كانت فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أدركه أبيّ بن خلف الجمحي وهو يقول: لا نجوت إن نجوت فقال القوم: يا رسول الله ألا يعطف عليه رجل منا، فقال: دعوه حتى إذا دنا منه تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الحربة من الحرث بن الصمة ثم استقبله فطعنه في عنقه وخدشه خدشة فتدهدى من فرسه وهو يخور كما يخور الثور وهو يقول: قتلني محمد وكان أبيّ قبل ذلك يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: عندي رمكة أعلفها كل يوم فرق ذرة أقتلك عليها ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: بل أنا أقتلك إن شاء الله تعالى فاحتمله أصحابه وقالوا: ليس عليك بأس قال: بلى لو كانت هذه الطعنة بربيعة ومضر لقتلتهم أليس قال لي: أقتلك؟ فلو بزق عليَّ بعد تلك المقالة قتلني فلم يلبث إلا يومًا حتى مات وضع يقال له سرف.
ولما فشا في الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل قال بعض المسلمين: ليت لنا رسولًا إلى عبد الله بن أبيّ فيأخذ لنا أمانًا من أبي سفيان، وبعضهم جلسوا وألقوا بأيديهم. وقال أناس من أهل النفاق إن كان محمد قد قتل فالحقوا بدينكم الأول، فقال أنس بن النضر عم أنس بن مالك: إن كان محمد قد قتل فإن رب محمد لم يقتل وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقاتلوا على ما قاتل عليه وموتوا على ما مات عليه ثم قال: اللهم إني أعتذر إليك مما قال هؤلاء يعني المسلمين وأبرأ إليك عما قال هؤلاء يعني المنافقين ثم شد بسيفه فقاتل حتى قتل رضي الله تعالى عنه.
وروي أن أول من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم كعب بن مالك قال: «عرفت عينيه تحت المغفر تزهران فناديت بأعلى صوتي يا معشر المسلمين أبشروا هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشار إليّ أن اسكت فانحازت إليه طائفة من أصحابه رضي الله تعالى عنهم فلامهم النبي صلى الله عليه وسلم على الفرار فقالوا: يا رسول الله فديناك بآبائنا وأبنائنا أتانا الخبر بأنك قتلت فرعبت قلوبنا فولينا مدبرين» فأنزل الله تعالى هذه الآية.
ومحمد علم لنبينا صلى الله عليه وسلم منقول من اسم المفعول من حمد المضاعف لغة سماه به جده عبد المطلب لسابع ولادته لموت أبيه قبلها ولما سئل عن ذلك قال لرؤية رآها: رجوت أن يحمد في السماء والأرض، ومعناه قبل النقل من يحمد كثيرًا وضده المذمم، وفي الخبر أنه صلى الله عليه وسلم قال: «ألم تروا كيف صرف الله تعالى عني لعن قريش وشتمهم يشتمون مذممًا وأنا محمد». وقد جمع هذا الاسم الكريم من الأسرار ما لا يحصى حتى قيل: إنه يشير إلى عدة الأنبياء كإشارته إلى المرسلين منهم عليهم الصلاة والسلام وعبر عنه صلى الله عليه وسلم بهذا الاسم هنا لأنه أول أسمائه وأشهرها وبه صرخ الصارخ، وهو مرفوع على الابتداء وخبره ما بعد إلا ولا عمل لما بالاتفاق لانتقاض نفيه بإلا، واختلفوا في القصر هل هو قصر قلب أم قصر إفراد؟ فذهب العلامة الطيبي وجماعة إلى أنه قصر قلب لأنه جعل المخاطبون بسبب ما صدر عنهم من النكوص على أعقابهم عند الإرجاف بقتل النبي صلى الله عليه وسلم كأنهم اعتقدوا أن محمدًا صلى الله عليه وسلم ليس حكمه حكم سائر الرسل المتقدمة في وجوب اتباع دينهم بعد موتهم بل حكمه على خلاف حكمهم فأنكر الله تعالى عليهم ذلك وبين أن حكم النبي صلى الله عليه وسلم حكم من سبق من الأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم أجمعين في أنهم ماتوا وبقي أتباعهم متمسكين بدينهم ثابتين عليه فتكون جملة {قَدْ خَلَتْ} إلخ صفة لرسول منبئة عن كونه صلى الله عليه وسلم في شرف الخلو فإن خلو مشاركيه في منصب الرسالة من شواهد خلوه لا محالة كأنه قيل: قد خلت من قبله أمثاله فسيخلو كما خلوا، والقصر منصب على هذه الصفة فلا يرد أنه يلزم من قصر القلب أن يكون المخاطبون منكرين للرسالة لأن ذلك ناشئ من الذهول عن الوصف، وقيل: الجملة في موضع الحال من الضمير في {رَّسُولٍ} والانصباب هو الانصباب.
وذهب صاحب «المفتاح» إلى أنه قصر إفراد إخراجًا للكلام على خلاف مقتضى الظاهر بتنزيل استعظامهم عدم بقائه صلى الله عليه وسلم منزلة استبعادهم إياه وإنكارهم له حتى كأنهم اعتقدوا فيه وصفين الرسالة والبعد عن الهلاك فقصر على الرسالة نفيًا للبعد عن الهلاك، واعترض بأنه يتعين على هذا جعل جملة {قد خلت مستأنفة لبيان أنه صلى الله عليه وسلم ليس بعيدًا عن عدم البقاء كسائر الرسل إذ على اعتبار الوصف لا يكون إلا قصر قلب لانصباب القصر عليه، وكون الجملة مستأنفة بعيد لمخالفته القاعدة في الجمل بعد النكرات، وأجيب بأن ذلك ليس تعين لجواز أن تكون صفة أيضًا مؤكدة لمعنى القصر متأخرة عنه في التقدير، وقرأ ابن عباس رسل بالتنكير.
{أَفَإيْن مَّاتَ أَوْ قُتلَ انقلبتم على أعقابكم} الهمزة للإنكار والفاء استئنافية أو لمجرد التعقيب، والانقلاب على الأعقاب في الأصل الرجوع القهقرى، وأريد به الارتداد والرجوع إلى ما كانوا عليه من الكفر في المشهور، والغرض إنكار ارتدادهم عن الدين بخلوه صلى الله عليه وسلم وت أو قتل بعد علمهم بخلو الرسل قبله وبقاء دينهم متمسكًا به، واستشكل بأن القوم لم يرتدوا فكيف عبر بالانقلاب على الأعقاب المتبادر منه ذلك؟ وأجيب بأنه ليس المراد ارتدادًا حقيقة وإنما هو تغليظ عليهم فيما كان منهم من الفرار والانكشاف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإسلامهم إياه للهلك، وقيل: الإنكار هنا عنى أنه لم يكن ذلك ولا ينبغي لا إنكار لما وقع، وقيل: هو إخبار عما وقع لأهل الردة بعد موته صلى الله عليه وسلم وتعريض بما وقع من الهزيمة لشبهه به.
وحمل بعضهم الانقلاب هنا على نقص الإيمان لا الكفر بعده احتجاجًا بما أخرجه ابن المنذر عن الزهري قال: {لما نزلت هذه الآية {لِيَزْدَادُواْ إيمانا مَّعَ إيمانهم} [الفتح: 4] قالوا: يا رسول الله قد علمنا أن الإيمان يزداد فهل ينقص؟ قال: «إي والذي بعثني بالحق إنه لينقص» قالوا: فهل لذلك دلالة في كتاب الله تعالى؟ قال: «نعم»، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم {أَفإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقلبتم على أعقابكم} والانقلاب نقصان لا كفر ولا يخفى أن هذا الخبر ليس من القوة إلى حيث يحتج به وإني لا أجد عليه طلاوة الأحاديث الصحيحة.
وذهب بعضهم إلى أن الفاء معلقة للجملة الشرطية بالجملة التي قبلها على معنى التسبب، والهمزة لإنكار ذلك أي لا ينبغي أن تجعلوا خلو الرسل قبله سببًا لانقلابكم على أعقابكم بعد موته أو قتله بل اجعلوه سببًا للتمسك بدينه كما هو حكم سائر الأنبياء عليهم السلام ففي انقلابكم على أعقابكم تعكيس لموجب القضية المحققة التي هي كونه رسولًا يخلو كما خلت الرسل، وإيراد الموت بكلمة أن مع العلم به البتة لتنزيل المخاطبين منزلة المترددين فيه لما ذكر من استعظامهم إياه، قال المولى: وهكذا الحال في سائر الموارد فإن كلمة أن في كلام الله تعالى لا تجري على ظاهرها أصلًا ضرورة علمه تعالى بالوقوع أو اللاوقوع بل تحمل على اعتبار حال السامع، أو أمر آخر يناسب المقام.
والمراد من الموت الموت على الفراش وبالقتل الموت بواسطة نقض البنية وقدم تقدير الموت مع أن تقدير القتل هو الذي كاد يجرّ الموت الأحمر لما أن الموت في شرف الوقوع فزجر الناس عن الانقلاب عنده وحملهم على الثبات هناك أهم، ولأن الوصف الجامع في نفس الأمر بينه صلى الله عليه وسلم وبين الرسل عليهم الصلاة والسلام هو الموت دون القتل خلافًا لمن زعمه مستدلًا بما ورد من أكلة خيبر، وإن كان قد وقع فيهم قتل وموت وإنما ذكر القتل مع علمه سبحانه أنه لا يقتل لتجويز المخاطبين له وآية {والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس} [المائدة: 67] على تقدير نزولها قبل أحد يحتمل أنها لم تصل هؤلاء المنهزمين، وبتقدير وصولها احتمال أن لا تحضرهم قائم في مثل ذلك المقام الهائل.
وقد غفل عمر رضي الله تعالى عنه عن هذه الآية يوم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقد روى أبو هريرة أنه رضي الله تعالى عنه قام يومئذٍ فقال: إن رجالًا من المنافقين يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم والله ما مات ولكن ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران فقد غاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع إليهم بعد أن قيل: قد مات والله ليرجعن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما رجع موسى فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم زعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات، فخرج أبو بكر فقال: على رسلك يا عمر أنصت فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات ومن كان يعبد الله تعالى فإن الله تعالى حي لا يموت، ثم تلى هذه الآية {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ} إلى آخرها فوالله لكأن الناس لم يعلموا أن هذه الآية نزلت حتى تلاها أبو بكر يومئذٍ فأخذها الناس من أبي بكر، وقال عمر: فوالله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت حتى وقعت إلى الأرض ما تحملني رجلاي وعرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات، والاعتذار باختصاص فهم آية العصمة بالعلماء من الصحابة وذوي البصيرة منهم مع ظهور معنى اللفظ كما اعتذر به الزمخشري لا يخفى ما فيه، وكون المراد منها العصمة من فتنة الناس وإضلالهم لا يخفى بعده لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يظن به ذلك، وإنما يرد مثله في معرض الإلهاب والتعريض.
{وَمَن يَنقَلِبْ على عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ الله} بما فعل من الانقلاب لأنه تعالى لا تجوز عليه المضار {شَيْئًا} من الضرر وإن قل وإنما يضر نفسه بتعريضها للسخط والعذاب أو بحرمانها مزيد الثواب، ويشير إلى ذلك توجه النفي إلى المفعول فإنه يفيد أنه يضر غير الله تعالى وليس إلا نفسه {وَسَيَجْزِى الله الشاكرين} أي سيثيب الثابتين على دين الإسلام، ووضع الشاكرين موضع الثابتين لأن الثبات عن ذلك ناشئ عن تيقن حقيته وذلك شكر له، وفيه إيماء إلى كفران المنقلبين، وإلى تفسير الشاكرين بالثابتين ذهب علي كرم الله تعالى وجهه وقد رواه عنه ابن جرير، وكان يقول: الثابتون هم أبو بكر وأصحابه وأبو بكر رضي الله تعالى عنه أمير الشاكرين، وعن ابن عباس أن المراد بهم الطائعون من المهاجرين والأنصار، وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار للإعلان زيد الاعتناء بشأن جزائهم واتصال هذا بما قبله اتصال الوعد بالوعيد.